أصبح حجم المعلومات وسرعة نقلها، اليوم، هائلا. لهذا نحتاج مهارات التفكير النقدي لتلقّي البيانات والمعطيات وقبولها بطريقة فعالة. يمتلك صاحب التفكير النقدي المهارات والأدوات اللازمة للاستفادة من المعلومات بطريقة تُساهم في زيادة الابتكار وتحسين الواقع بدل الركود والاكتفاء بالموجود. في المنظمات والشركات، تبدأ عملية التحول إلى “منظمة تفكير” عبر موظفيها الذين يمثلون المحرك الذي يقودها.
تحتاج المنظمات الراغبة في التحول إلى منظمة تفكير إلى إجراء العديد من التغييرات في العديد من أقسامها، للقيام بالإجراءات المطلوبة للاستفادة من التفكير النقدي. ومن هذا المنطلق يساعدنا التفكير النقدي في دفع الأفراد وفرق العمل والمنظمات لفحص المعلومات وسماع وجهات النظر المختلفة بطريقة يستفيدون فيها من خصائص التفكير النقدي.
سنتناول في هذا الفصل كيف يمكن للتفكير النقدي بالإضافة لمهارات التواصل والتعاون والابتكار أن يضاعف من قوة التيسير.
ماهو التفكير النقدي، وماهي فوائده؟
عام 2005، نشرت المجلة الكورية للتفكير وحل المشاكل ورقات علمية بعنوان “تطورات الحلول الإبداعية لمشاكل المنظمات : التركيز على مهارات وأساليب التفكير“. في هذه الورقات البحثية يقدم الكاتب عددا من الدراسات التي تبحث طرق قيام المنظمات والموظفين -الذين حصلوا على تدريب في حل المشكلات بشكل مُبتكر- بزايدة النجاح التنظيمي للمنظمة. وتعود أهم أسباب النجاحات (حسب الورقات العلمية) كـ :
– توفير التكاليف.
– تحسين عملية صنع القرار.
– زيادة تحفيز الموظفين.
إلى زيادة مهارات التفكير النقدي في المنظمة ولدى القوى العاملة.
يتطلب إلهام القوى العاملة للتفكير بشكل نقدي 3 عناصر تنظيمية رئيسية :
– التواصل الفعال والمفتوح.
– الرغبة في التعاون في جميع المستويات.
– ثقافة تتبنى الإبداع والابتكار.
الأمر الذي يسمح للذكاء الجماعي للمنظمة بالنمو والتوسع.
المنظمات التي تُشجع على التفكير النقدي تطور مهارات وأساليب الإدارة التشغيلية. حيث يُصبح الموظفون الأذكياء أكثر قدرة على التكيف مع القوى غير المرئية في مستقبلهم. وقد أظهرت الأبحاث أن المنظمات التي تنفذ هذه العمليات يمكنها “… توقع زيادة 20% من عائداتها المستقبلية من مصادر جديدة أكثر من نظيراتها التقليدية”.
كيف تصبح مفكرا نقديا؟
هناك 3 عناصر أساسية لازمة لعقلية التفكير النقدي: الفضول والتشكيك والتواضع.
الفضول يجعل الناس يركزون على الإجابة عن سؤال “لماذا؟”. الأمر الذي يساعد على اكتشاف الأسباب العميقة للمناقشة أو المشكلة أو التحدي. يجعلنا الفضول أيضا نتساءل عن الدافع وراء المعلومات التي تُقدم لنا. سيبحث العقل الفضولي عن سبب تقديم هذه المعلومات؟ ولماذا يتوقعون مني أن أوافق؟ وماهي الفرضيات التي يجب الاعتراف بها حول هذه المعلومات؟
يطور الفضول الرغبة في الإصغاء باهتمام للآخرين، والاستفسار عما يقصدونه والانخراط في حوار هادف. يعمل الفضول على بناء مهارات الاستماع، والتي تكون دائما في حالة تأهب لـ “سوء الفهم” و”التحيز” و”الافتراض” والبحث في “المعاني الخفية” الخ. يقود الفضول إلى الرغبة في الاستماع والنظر في وجهات النظر البديلة. كما يسمح لنا بالنظر في المعلومات قبل الحكم على صحتها أو ملاءمتها.
«يُصنف المُفكرون النَّقديون “تَدفقات” المعلومات الدَّاخلة التي تُساعد على ضمان جودة “تَدفقات” الأفكار الخارجة».
إلى جانب الفضول، يُمثل الشك جزءا ضروريا من التفكير النقدي. الشك يبني القدرة على أن تكون ذكيا بالأفكار والآراء والمعلومات. الشك لا يعني أن نُشكك في كل شيء تلقائيًا ونتجاهل كل المعطيات حتى يتم إثباتها بما لا يدع مجالا للشك. الشك يعني أنك في حالة تأهب تجاه المعلومات غير الموثوق بها أو المضللة أو المتحيزة أو الناجمة عن تجارب فردية. يسمح الشك للأفراد بالتركيز على صحة المعلومات واستخدامها لتحديد منطق التفكير. على سبيل المثال، محاولة تحديد نوع معدات الهبوط التي يحتاجها الصاروخ للهبوط على “قمر مصنوع من الجبن” تُركز على النقاش حول معدات الهبوط. يعيد الشك تركيز المناقشة أولا على فرضية كون القمر مصنوع من الجبن ومصدر هذه المعلومات. إنه يمكّن المفكرين الناقدين من تصنيف “تدفقات” المعلومات الداخلة التي تساعد على ضمان جودة “التدفقات الخارجة” للأفكار.
العنصر الأخير في عقلية التفكير النقدي هو التواضع. يتيح لنا التواضع أن ندرك أن كونك مخطئًا يمكن أن يكون أمرا إيجابيًا. يتيح لنا التواضع أن نتوقع أن تكون أفكارنا وافتراضاتنا غير صحيحة. يمنحنا القدرة على إدراك أنه إذا تمسكنا بمعلومات “خاطئة” قد نستخدم هذه المعلومات لاتخاذ قرارات سيئة. كلما أسرعنا في التخلي عن المعلومات “الخاطئة”، زادت سرعة الابتعاد عن مسارات المعرفة غير الصحيحة. المفكرون الناقدون ليسوا في حالة قلق دائمة لأنهم قد يكونون على خطأ، فهم يصبحون منفتحين على رؤية الخيارات والفرص المختلفة. كما يصبحون مستعدين لموازنة المعلومات الجديدة على أساس مزاياها، بدلاً من قدرتها على دعم الاستنتاجات السابقة. هذا السلوك يحررهم لمتابعة وجمع وقبول معلومات جديدة.
يصعب أحيانا الاعتراف صراحة بأننا مخطئون. ومع ذلك، فإن التمسك بالمعلومات أو الأفكار أو الافتراضات الخاطئة يمثل عبئا على تفكيرنا. الاستعداد لقبول حقيقة أننا “قد” نكون مخطئين، ويفتح إمكانية رؤية الأشياء من منظور مختلف ويتغلب على الثبات الوظيفي لأفكارنا. لا يمكننا التفكير معا بشكل أفضل، إذا كنا غير مستعدين لتحدي أفكارنا وافتراضاتنا.
الفضول والتشكيك والتواضع ليست ضرورية فقط لبناء عقلية التفكير النقدي، كما بينت الفصول الأخرى من هذا الكتاب، جرعة صحية من الفضول والتشكيك والتواضع هي أيضا متطلبات للتفكير معا بشكل فعال.
التفكير النقدي والتواصل
المعرفة المؤسسية هي تلك الخبرة المكتسبة بشق الأنفس والتي تراكمت على مدى سنوات من التجريب والتعلم في المنظمة. إنها الدروس التي تعلمها الموظفون من “ممارسة” أعمال المنظمة. أن نصبح منظمة تفكير نقدي يعني أننا نشارك باستمرار حكمة المنظمة. يبدأ جزء كبير من إيقاف استنزاف المعرفة من المنظمات بضمان عدم تخزين المعرفة المؤسسية من قبل قلة ولكن عبر مشاركتها من قبل الجميع. تضمن المنظمات التي لديها ثقافة التفكير النقدي التعامل مع هذه المعرفة كمورد تنظيمي.
«سوف تدمج فرق العمل بسرعة هذا “الوقود المعرفي” الجديد في أفكارهم وفي محركات صنع القرار الخاصة بهم».
تتخذ المنظمات الملتزمة بتنمية التفكير النقدي خطوات فعالة لضمان التعامل مع جميع اجتماعات الأعمال والمناقشات والعمليات كفرص للتعلم. المناقشات المتواصلة حول الأمور التي سارت بشكل جيد، ونظيرتها التي فشلت، وكيف يمكننا أن نحقق المزيد من النجاح، وما لن نفعله مرة أخرى، وما الذي يمكننا تغييره، كل هذه مواضيع مهمة. توزيع هذه المعارف على الجميع يقوي الذكاء الجماعي للمنظمة. في كثير من الأحيان، أقترح على المديرين تضمين المحادثات المركزة في كل اجتماع، ولكل مشروع، لتشجيع التفكير والتعلم والمشاركة بين أعضاء الفريق.
تنشر الأنشطة مثل المحادثات المركزة على التعلم على جميع وجهات النظر، وتضمن أن يأخذ الموظفون الوقت الكافي للتفكير في ما تعلموه والتفكير فيه ويعملون كمحفز للمشاركة من قبل الجميع. يجب تصميم هذه العمليات التعاونية لنشر التعلم المؤسسي من خلال تبادل المعلومات والتقييم الشفاف والتفكير والتحسين المستمر. هذه الإجراءات لها فائدة ثانوية تتمثل في السماح للموظفين الجدد باكتساب سنوات من التعلم في فترة زمنية قصيرة للغاية. يتيح نشر الدروس المستفادة من “الفرد” إلى “المنظمة” وللجميع فرص حل المشكلات والتعلم من الأخطاء والمساهمة في الأفكار الجديدة ومراجعة إجراءات العمل.
إن التعامل مع المعرفة المؤسسية كأصل مشترك يسمح للمجموعات بالتعلم من تجاربهم الخاصة من خلال مشاركة أفكارهم والتعلم من تجارب الآخرين في المنظمة. في كل اجتماع مع الموظفين، قم بتقديم عدد قليل من محادثات التفكير النقدي المُيسر لتشجيع الناس على مشاركة معارفهم المؤسسية وتوسيعها. شجع رواية القصص حول كيف أدت عمليات التجربة والخطأ إلى تقنيات جديدة. تعزيز المناقشات المتعلقة بالخبرات المكتسبة والتحديات والمكاسب. اطرح سيناريوهات عبر سؤال “ماذا لو؟” لتشجيع التفكير الأعمق والتعلم المتقدم. قم بإجراء سباقات لحل المشكلات والنظر في الإجراءات البديلة. سوف تستوعب الفرق بسرعة المعرفة التي يكتسبونها، بالإضافة إلى طرق التفكير معًا بشكل أفضل. سيقومون بعد ذلك بدمج هذه المعرفة في أفكارهم الخاصة واستخدامها لاتخاذ قرارات أفضل.
[ … ]
الخلاصة
يعد استخدام التيسير لمساعدة المنظمة على تطوير ثقافة التفكير النقدي خطوة مفيدة للمنظمة والموظفين. يوجه التيسير فرق العمل والتفاعل في المجموعة، وأولئك الموجودون في المجموعة يمكنهم حل “المشكلة” بكل حرية والتعلم من بعضهم. لا يسمح استخدام المشاركة الميسرة للمجموعة معالجة المشكلة فقط ولكن أيضا لبدء عملية تطوير المهارات اللازمة للتفكير النقدي. يعمل الميسر على توجيه المجموعة وإنشاء عمليات لزيادة الذكاء الجماعي عبر التعاون وفتح خطوط الاتصال وحل المشكلات بشكل إبداعي. المهمة الرئيسية للاجتماع المُيَسَّر هي إيجاد حل للمشكلة المطروحة. ومع ذلك، يتخذ الميسر خطوة إضافية لتقديم أدوات التفكير النقدي التي أصبحت مع مرور الوقت جزءًا لا يتجزأ من العمليات التجارية اليومية للمجموعة. يتم تشجيع الأفراد على طرح الأسئلة وفهم افتراضاتهم وتحديها والتفكير في الآثار المترتبة على التعليقات التي يتلقونها. يتم تنظيم التفاعلات لإثارة التحيز، واستكشاف وجهات نظر مختلفة، والتفكير بشكل خلاق وعزل المناطق التي تحتاج فيها المجموعة إلى مزيد من المعلومات. يتم تدريب المجموعات على الاستماع، واستيعاب المعلومات، والنظر في الخيارات واستكشاف الأفكار لمزيد من التفاصيل. يمكن للفرق “حل المشكلة” عبر المؤسسة بمسؤولية من أجل تحديد العوائق التي يمكن معالجتها وحلها.
[ … ]